.
تبتسم كثيرًا، وتضحكُ أكثر مما تتكلم، تقول: هو الضحِك خُلقَ أصلًا عُذرًا للذين لا يجدون ما يقولون.
حينما تمشي، تكاد تتعثّر من هولِ النظرات، تحاول ألّا ترفعَ عينيها، تكتشف فيما بعد أنّها تنظر عميقًا في عيون الناس، وتغرق تغرق تـ غـ ر ق. إذنْ لا عتَب على النّاس، لا عتب.
تمشي على الأرض نعم، لكنها في الحقيقة ليست هُنا، تدور عيناها دهشةً كل حين لكل شيء ولِلا شيء، تنحني في منتصف الطريق، في منتصف الخُطى، حتى تطمئن إلى الوردة المائلة، هي تعلم أن الوردةَ صلبةٌ أكثرَ منها، بكثير، لكنها تأمل أن تمنحَ الأرضَ شيئًا ، وتتركَ على طرف الوردة أثرًا، ولا تفعل، تقفُ، تبقى تنظر إلى مساحة الورد بضع دقائق، الشمس في قمةِ حياتها، الفتيات يهربن من الشمس مشيًا سريعًا، تمسك إحداهن كتابًا كيْ تمنعها من صفعها. والشمس تصفع أحيانًا كثيرة. لكنها لا تفعل معها. الذي يأمن الطبيعةَ تأمنْه.
تمشي بعدَ أن تستغرق خيالها في تلك المساحة، وتصبح أبعد ما تكون عن الأرض، تتابع المشي، يغريها جناح الطير في الغصن البعيد، البعيد جدًا، وتقف ثانيةً لتتابعه. أو تمشي ورأسها يتبعها، لا بأس. تعود إلى ذاتها، ولا تلوم أي ناظرٍ إليها، تبتسم، عيناها تقول: أعترف أنني على مشارف الجنون، لا بأس.
تجلسُ على الكرسيّ المقابلِ للبركةِ غير العذبةِ في الحقيقة، لكنها تفي بالغرضِ، تسخر من الفتى الذي اتسخ ثوبه الأبيض بشايٍ لم يعرف كيف يتوازن وهو يمسكه ويمشي، تسخر منه حين يأتي ليغسل الشاي بماء البركة: الشاي ألطف على ثوبك من هذا الماء يا أخي. هههه
تقلص عينيها، إلى الشجرة هذه المرة، تكتب قصائدًا في خيالها، لكن لا تحبسها في الورق، القصيدة الحرة أجمل، تكتب الكثييير، وتغني، ويكاد صوتها يُسمع، لكن تفيق. تفيق لأنها تلاحظ حركةً قريبًا من قدمها، وهي الملتفة بكل ما أوتيت من أطراف حتى لا تحاول حشرةٌ ما أن تتسلقها. فأر. فأر يقترب، لكن ليس منها، يقترب ليختار حبة " نَبق " طرية، يمسك واحدةً، يتفحصها، يتركها، يمسك الأخرى، يتفحصها، يحملها، يختفي: هه، حتى الفأر، يركز حين يختار شيئًا.
وقت المحاضرة، تفكر في عدد الساعات التي تغيبت فيها عن المحاضرة هذه، بقي غياب واحد ويكون عليها إنذار. أف. تقوم متثاقلة، تشمل المكان جميعه بعينيها، كأنها ستراه للمرة الأخيرة، وهي متأكدة أنه يفصلها عن المكان نفسه محاضرة واحدة ليس إلا. تذهب.
تدخل بين الطالبات، تستشعر الغربةَ أقصى ما تكون عليه، حتى تصادف إنسانًا تأمنه، تجلس في الصف الأخير أو بعد الأخير. تسمع المحاضرة وتكتب شيئًا آخر. أو تسرح في وجه المحاضرِ وتغييييب، لكن لا تنسى أن تحرك رأسها إشارةً أنها هنا، تسمعك ومعك تمامًا.
تفتح الهاتف. مثالية جدا. تكره المثالية جدًا. تلتقط الصورَ كي تستلهم الكون، وتكتب، وتكتب لأنها تحتاج أن تكتب، وتسمع صوتيةً جديدةً كي تضجّ فتكتب، تحضر اجتماعًا في مساء اليوم، كي تمتلأ، وتكتب. إنها تكتب كل حين لكنها لا تملؤ ورقة.
في كل مكان تضع بصمةً لا تشبهها وتتلقَى على إثرها التحايا والمديح، لا يؤذيها شيء أكثر من أنها لا ترى كما يرون: أحتاج زاويةً كزواياكم. أحتاج أن أندهشَ منّي. تبكي.
تدخل البيت، الذي يميز الحياةَ الآن أنه لا غربةَ هنا.
.
كم تتمنى لو أنها تستطيع أن تحمل دفء أمّها وغفلة أخيها الصغير وأمانَ أبيها معها كل يوم، تشعر أنها تحتاج هذه الأركان دائمًا كي تأمن الحياة.
تأكل أو لا تأكل، الأمر ليس مهمّا، في النهاية يبدو الشبع وجعًا نفسيًا وتأنيبَ ضمير.
..
تشعر أنها تحتاجُ صلاةً أخيرة.
تستعدّ بكلّ ما أوتيت من روح راغبة.
تصلي.
تُنهي صلاتها، تتكور على ذاتِها وما زال لبس الصلاةِ عليهَا، ثم ترجو بعمق: اللهم لا تكرّرني على هذه الحياةِ، ولا تمنح أحدًا من صفاتي شيئًا مُطلقًا، ولا تُشبّه بي صغيرًا وإنْ تسمّى باسمي. وإنْ أخذَ من ملامحي شيئًا. اللهم لا ترفعْ سقفي في نظر أحد، ولا تجعلني خيبةَ أحد، اللهمّ لا تُثقلني على كتف أبي وأمي، ولا تثقلني على مسامع صديقاتي، اللهم لا تجعل صوتي عاليًا كي لا يسخط الكون مني. اللهم أحتاجُ قلبًا طاهرًا كي أستوعب الحياةَ كما تحبّ مني. اللهمّ أجبني.
و تـَ نـ ـا م.