الأحد، 30 أغسطس 2015

أمان ..

.
تغفو على الأكتافِ الحياةُ، تقصرُ قاماتنا من ثقلها. ولا نوقظها لئلّا نزعجَ الحالمينْ.
.
الوقتُ دهرٌ، والأماكنُ ممتدة إلى الـ لا نهاية، إلى البعيد البعيد. السماء غادرتنا منذ زمن. والأرض ترجف من تحت أقدامنا رجفة المصابِ بالحُمّى، رجفةَ الملدوغ.
.
تتماثل الوجوه. لا وجه يشبه الآخر ولا وجه مختلف. كل شيء يتماهى مع ما حوله، بالكادِ نجد وجوهنا لنميّزها، بالكاد نلتقطُ صورتنا في المرايا ونصيح: هانحن إذن. كبرنا.
.
اللؤم. شعار المرحلة. ويتنافس المتنافسون يا صاحبي كي يحوزوا الشرف، شرف اللؤم. وأشد ما أكره في الحياةِ الإنسان اللئيم - إذا ما سُمّيَ إنسانا - وأشدّ ما أجاهد.
.
أريد أن أُثبتَ لنفسي المزيد من: خُلقتِ وحدكِ وسترجعينَ وحيدة.
التشبّث بالأشياءِ هنا يشبه الانتحار. يلقيكَ في الدركِ الأسفل من الوجعِ. ثمّ قاسِ إلى ما شئتَ من ألمٍ، ومُت قبلَ أوانكَ بأمدْ. والحياة يا صاحبي لا تحمي المتشبثين.
.
صيّرني غيمةً، أو طيفًا يلقي على البشر أحلامهم البعيدة. أو يرسم أحلامًا جديدة. كي أبتسم. حرّرني من أنانيتي وقلقي عليّ كي أقفَ على أعتابِ الكون، وأدرك قلقه. امنحني خفّة الزاهد، يدَ الباذل، قلب الأمّ، دهشة الطفل، وأمان العائد إلى الوطن الذي يهوى. امنحني الأمان.

الاثنين، 17 أغسطس 2015

ثرثر ما استطعتْ.



.
يُغلَق باب. يُشرَع آخر. يغلق آخر. يشرع ما بعد الآخر. وهكذا دواليك، لمدة حياة. حياة كاملة.. منذ الشهقة الأولى. حتى الزفير الأخير.

.
يقول أحد الشعراء النقاد، فيما معناه - حيث الذاكرة أضعف من أن تحفظ- : " اسمك أيها الكاتب عزيز كثيرا. تأكد من أي شيء تكتبه قبل أن تنشره على الملأ مذيلا بك. باسمك ". رغم هذا - أيّها الأستاذ الكبير - أنا أكتب ما أشاء، ولا ألتفت إلى اسمي إلا بعد أن يلتهم الإحراج ما تبقى مني أو بعد أن تضطر ملامحي لاصطناع الابتسامة. وتكلّف الشكر على الثّناء الذي يعني الشفقة. نحن نعرف أنفسنا كثيرا يا أصدقاء، لا تبتذلوا شيئًا. ولا تتكلّفوا معنى.

.

تنسى موعد الدواء للمرة التاسعة والعشرين بعد شهر من استلامه. تأخذه كل سبع وعشرين ساعةٍ، وألم واحتمال، بديلًا عن موعده كل أربع وعشرين ساعة. وتفادٍ. وقوة.
ليس لها من الأمر شيء. تشبه الأشياء حين تخرج من السيطرة كثيرا بالون الهيليوم الذي يفلت من قبضة طفل في زحمةٍ كل شيء، كل أحد. تخنقه الغصة، تنكسف شفتاه إلى الأسفل وتتصاعد أنفاسه لكنه يقبض دمعه حتى لا يغيب والداه عن عينيه وسط الزحام، ثم يصبح القلق أشد والخيبة أسوأ. يلحق بهما. ويطير البالون إلى المالانهاية. أحسد البالون أحيانا. التصريح بالطيران هكذا دون تكلّف أمر ماتع حقًّا. أحسد البالون حتى يمر عليه طيرٌ ما. ثم أشعر تجاهه بالشفقة.

.
تخطط لقراءةِ ألف كتابٍ، تمسك الأول، تحضّر الشّاي أو القهوة - تصنع جوًّا -. تخرج إلى الأرجوحة، أمام الشجرة التي تسجد بديلا عن الوقوف، أحسبها ستفترش مساحة البيت بعد مدة، تجلس، تشرب الشّاي، تحدق في الشجرة، تصمت. تسرح. تتخيل. تتذكر. تؤنب نفسها: يجب أن أنسى. تتذكر. تغرق في الشجرة وما خلفها وما حولها، وتخرج بحوار أو صراعٍ داخلي، ثم تعود، تضع الكتاب مكانه. في أحسن الأحوال، تكون قد غيّرت مكان فاصل الكتاب بمقدار صفحة واحدة، هذا في أحسن الأحوال.

.
يحمل الإنسان نفسهُ غالبًا إلى النهاية البعيدة. رغم أنه كان بإمكانه أن يصنع نهايةً أقرب. يحمل قلبه بيديه ويملؤه بما استطاع مما لا يجب كي يتلفَ أكثر. " كي يتعلم " تقول لذاتها. سيكفر بها القلب ذات درس من فرط ما تعلّم على يديها. أجزم بذلك. ينفق الإنسان كثيرًا كي يحصل أكثر. احزر كم يحصل حين ينفقُ نفسَه؟
.

الصّوت / الرائحة / والأطياف. تبدو شديدةَ اللؤم. شديدة النّفاذ. أشعر بها تتنافسُ فيمن يقوى أن يهشّم أكثر. تسري قوانين الغابِ على الذاكرةِ. تمشي بها أبدًا.
.
تبطرُ على الحاجةِ لكلّ شيء. أو ربما لا تبطر. المهم أنها لا تحب اللجوء، ولا تحب الاعتماد. تحب أن تكون ملجأً، وملاذًا. كزاهدٍ في صومعة. تمامًا. ليس مديحا بالمناسبة. هذا تشبيه طارئ.

لماذا نُخلق فرادى إذا كان أحدنا سيحتاج إلى الآخر بعدئذٍ؟

تتمنى لو أنها خلقت لكي تُعطي أبدا. ولا تأخذ إطلاقًا. تتمنى كثيرًا.
يبدو أن حياتها ستكون مليئة بها وحدها. تتمنى ذلك، أو ربما تكذب.
.

" يبدو أن أخاك الصغير يأخذ ملامحك كثيرًا ".
تحمله إلى المرآة، وتقرب وجهيهما، ثم تُسرّه أنهما لا يتشابهان إطلاقًا، وأن الناس لا يرون جيدا. تؤمّله أنه سيبدو أجمل. تُدهش الطفل المرآة حين تكررهما مرتين. ويبدأ يطابق الصور. ثم يضحك. وحديثها هواء. لكنها تعتقد أن الطفل يختزن ما يسمع، ثم يصبح عليه أن يعيد شريط التسجيل ذات فراغ عندما يكبر.

.
كم مرّة نتهشّم أمام المرايا كي نعرفنا؟
تغرق في التفاصيل، تجرب ملامح مختلفة، تبتسم، تضحك، تبكي، تندهش، ترفع حاجبًا، وتنزل آخر، ترفع اثنين، تغضب، تفتح عينيها على اتساعهما. " تستهبل " تمسك قبضةَ ماء وتصفع وجهها به حَنَقًا. تتهشّم، تبتعد. هنا تكتمل الصورة تماما.

.
تضع السّماعة على أذنيها، إحدى الجهتين لا تعمل، يدخل الصوت من جهة ويخرج من أخرى. تماما مثل الوعي أو الدرس الداخل من أذن والخارج من أخرى. تهرب إلى مكتب أختها، تأخذ سماعة جديدة. ثم يحلو الضجيج. حين يضجّ الداخل، ننافسه بضجيج الخارج الذي نحدثه بأنفسنا، وما دامت لا تملك ضجيجا. تضع السماعة.. وتحاول الكتابة والغناء في الآن ذاته.
.
تثرثر كثيرًا هنا، بمقدار صمتها كلّ حين. يخيّل إليها أنها ستستطيع كسب فرصة للدخول في موسوعة غينيس في أطول فترة صمت. وأطول فترة تحديق دون معنى.
مرّ عليها زمن دون أن تثرثر. كانت " تحافظ على اسمها عزيزا " كما يقول الشاعر الناقد.

ماذا جَنينَا من وَرا الأسماءِ؟
وتهشِّم الأرواحَ قبضةُ ماءِ !
..
ثم لا قصائدَ لا عناوينَ لا رسائل لا مقاصدَ لا ألغاز.
.
تغمضُ عينيها. ربما ستنام بعد الثرثرة كي تصحو. ربما ستنام بعد الثرثرة كيـ لا.
.







الخميس، 6 أغسطس 2015

هذَيان.

-
صباحًا.. يبدو اليوم مختلفا جدا، يبدو أكثر اختناقا.
تفتح شبابيك قلبها قبل النافذة، تُوقد الشمسَ في داخلها قبل أن تدخل إليها دون عناء. ثمّةَ نور ناقص. ثمّة كسل.

تصبح الابتسامة شيئًا مترَفًا وصعبا جدا، يصبح الحوار مع الآخرين مستحيلًا، يصبح كل شيء عكِرًا، حتى بكاء الطفل البالغ أربعة أشهر بالكثير. يصبح ضجيجًا، صخبا.

( أصبحنا وأصبح الملك لله ). تذكرت أن تقولَ بعد غفلة.
جيد أننا نستطيع استحضار شيء ما في وقته. مرّ على استحضارنا الأشياءَ في وقتها زمن طويل.

تقف، يعصف بها دوار الكون كلّه، الكون ليس ثابتا إطلاقًا، وهذا الرأس يحمل كل شيء قابل للدوران. ويدور بها.
تقف مدة حتى تثبت الأرض بها، وتستطيع تمييز الأشكال أمامها. أحيانا، تبدو الأشياء المبهمة أجمل، كما يرى ناقص النظر الكون عندما يخلع نظّارته. كل شيء يبدو متشابها، وبسيطا جدا. كما نبدو ونحن مجرّدين من أي فكرةٍ أو انتظار أكثر خفّة، وأكثر اتزانًا.

تمارس يومها - ثقيل الظل - كما يليق به. كأنها تنافس الثقل، وهي تعرف أن هذا غباء على أقل تقدير. وحمق.

تهذي، تتكلم. تريد أن تقول أن الضربة تكون أقسى كلما كان صاحبها أقرب. الضربة التي تجعلك تتخدّر فيما بعد، وتحتمل كل ضربة أخرى، دون أدنى شعور. تقول دعونا من هذيان أن المرء لا يجب أن يلتفت إلى الآخر أو أن يجعله متحكما في مزاجه، قسرا عليك سيتحكم أحدهم في مزاجك، ويعكر بعضهم يومك، ويفتح لك آخر باب الحياة. لا تخدع ذاتك.


الاثنين، 3 أغسطس 2015

عَودة.

لَنا في الخطوِ
في الأوهامِ
في الأيّامِ
ألفُ عِظَةْ
وحسْبُ المرءِ
أحلامٌ تعوّضهُ
أسى اليَقَظةْ.
.
كمرّ سحابةٍ تمضي
بنَا هذي الحياة
سُدى..
هلِ ادّاركْتَ؟
- تسألني -
وما يجد السؤالُ صَدى.
.
خفيفًا
مثلَ ظلّ الطيرِ.. أرجو
أن أُرى. نَسمةْ.
أمرّ كأنني لا شيءَ.
أُهدي النورَ للعتمَةْ.
.
أمرّ ولا تدوسُ خطايَ
قلبًا.. ثم توجِعهُ.
ولا تأتي على جُرْحٍ
قديمٍ.. ثمّ تُرجعهُ.
.
ولا تقسُو على أحدٍ
فتفطرُ عينَه دمعَةْ.
وتوقد بسمةً بيضاءَ..
تحرقُ للأسى
شمعَةْ.
.
متى نمشي ويعرفُنا
الطريقُ النورُ.. والحقُّ؟
وينبتُ حولنا وردُ الرِّضا..
ويحثّنا الشوقُ؟
.
متى ننسى
فلا حزَنٌ، ولا أسفٌ، ولا قلقُ؟
متى نرنو إلى الأحلامِ
لا خوف ولا أرقُ؟
.
متى؟
والفطرةُ البيضاءُ تطرقُ
للهُدى بابًا.
- شقيٌّ عاد من صخبٍ..
ومن دربِ الهَوى آبَا.
.
سيَسقي اللهُ فطرتهُ
لتُزهرَ.. جنةً ورِضَا.
ويمضي .. أينمَا
وجدَ السبيلَ الحقَّ
فيهِ مَضى.
.
نمرّ.. وألف مثقالٍ
نحمّلها على الكتِفِ..
نعودُ إليْهِ.. يَقبلنا
فرَبُّ العائدِينَ يَفِي.
.

خِفافًا.. لا نرى ألَمًا
ولا يغتالُنا البُؤسُ.
فهلْ مِن عوْدةٍ أحْلى
تَبرّ النفسَ.. يا نفسُ؟

السبت، 1 أغسطس 2015

تحيّة.. وبعد

-
العَتمة الشديدة، أوّل دلائل طلوع الفجر. كان شمس يفكّر بينه وبين ذاته الواسِعة.

يمدّ يدهُ، تغرق في العتمةِ، لا يراها، تمتدّ إليه يدٌ، تحاول الإمساكَ به، يطفو. يمتنع. يريد أن يمدّ يده فيَصل هو.

يسمع نداءَ قلبهِ، يمتلئ به، ويُريبه أن ليسَ هنالك صدى. ونداء آخر من بعيد، ينادي لـ شمس، لكنه يتجاهل. يريد صوتَ داخلهِ هو.

يعرف شمس أنّه ركن ثبات على هذه الأرض. وأن الكلمة حين ينطقها تنساب قصيدة، وأن الورد يمتلئ حين تقبضه أنامله عبيرًا. يعرف أنه أقرب ما يكون إلى السّماء، وأن الليل الطويل دليل على صبحٍ قريب.
.
يغرق الأمل، يغرق عميقًا. وينجو شمس لأنه متسع للحياةِ رغما عن كلّ شيء. يغرق الأمل، وتنهار الدموع، وتَحترق الابتسامة. لكن شيئًا لا ينطفيء، قلب شمس. كان دائما مُضاء، ولم يزل.

مما يحقق الإنسان قلبه، ومما يحقق قلب الإنسان أن يُوقدهُ دائمًا بما بقي من شُعلٍ وأن يُطفئ منه جذوة الـ كلّ إلا نفسي.

.
إلا قلبكَ شمس. أوقدهُ رغم اليأسِ. وأطفئ به حرائقنا.