.
يُغلَق باب. يُشرَع آخر. يغلق آخر. يشرع ما بعد الآخر. وهكذا دواليك، لمدة حياة. حياة كاملة.. منذ الشهقة الأولى. حتى الزفير الأخير.
.
يقول أحد الشعراء النقاد، فيما معناه - حيث الذاكرة أضعف من أن تحفظ- : " اسمك أيها الكاتب عزيز كثيرا. تأكد من أي شيء تكتبه قبل أن تنشره على الملأ مذيلا بك. باسمك ". رغم هذا - أيّها الأستاذ الكبير - أنا أكتب ما أشاء، ولا ألتفت إلى اسمي إلا بعد أن يلتهم الإحراج ما تبقى مني أو بعد أن تضطر ملامحي لاصطناع الابتسامة. وتكلّف الشكر على الثّناء الذي يعني الشفقة. نحن نعرف أنفسنا كثيرا يا أصدقاء، لا تبتذلوا شيئًا. ولا تتكلّفوا معنى.
.
تنسى موعد الدواء للمرة التاسعة والعشرين بعد شهر من استلامه. تأخذه كل سبع وعشرين ساعةٍ، وألم واحتمال، بديلًا عن موعده كل أربع وعشرين ساعة. وتفادٍ. وقوة.
ليس لها من الأمر شيء. تشبه الأشياء حين تخرج من السيطرة كثيرا بالون الهيليوم الذي يفلت من قبضة طفل في زحمةٍ كل شيء، كل أحد. تخنقه الغصة، تنكسف شفتاه إلى الأسفل وتتصاعد أنفاسه لكنه يقبض دمعه حتى لا يغيب والداه عن عينيه وسط الزحام، ثم يصبح القلق أشد والخيبة أسوأ. يلحق بهما. ويطير البالون إلى المالانهاية. أحسد البالون أحيانا. التصريح بالطيران هكذا دون تكلّف أمر ماتع حقًّا. أحسد البالون حتى يمر عليه طيرٌ ما. ثم أشعر تجاهه بالشفقة.
.
تخطط لقراءةِ ألف كتابٍ، تمسك الأول، تحضّر الشّاي أو القهوة - تصنع جوًّا -. تخرج إلى الأرجوحة، أمام الشجرة التي تسجد بديلا عن الوقوف، أحسبها ستفترش مساحة البيت بعد مدة، تجلس، تشرب الشّاي، تحدق في الشجرة، تصمت. تسرح. تتخيل. تتذكر. تؤنب نفسها: يجب أن أنسى. تتذكر. تغرق في الشجرة وما خلفها وما حولها، وتخرج بحوار أو صراعٍ داخلي، ثم تعود، تضع الكتاب مكانه. في أحسن الأحوال، تكون قد غيّرت مكان فاصل الكتاب بمقدار صفحة واحدة، هذا في أحسن الأحوال.
.
يحمل الإنسان نفسهُ غالبًا إلى النهاية البعيدة. رغم أنه كان بإمكانه أن يصنع نهايةً أقرب. يحمل قلبه بيديه ويملؤه بما استطاع مما لا يجب كي يتلفَ أكثر. " كي يتعلم " تقول لذاتها. سيكفر بها القلب ذات درس من فرط ما تعلّم على يديها. أجزم بذلك. ينفق الإنسان كثيرًا كي يحصل أكثر. احزر كم يحصل حين ينفقُ نفسَه؟
.
الصّوت / الرائحة / والأطياف. تبدو شديدةَ اللؤم. شديدة النّفاذ. أشعر بها تتنافسُ فيمن يقوى أن يهشّم أكثر. تسري قوانين الغابِ على الذاكرةِ. تمشي بها أبدًا.
.
تبطرُ على الحاجةِ لكلّ شيء. أو ربما لا تبطر. المهم أنها لا تحب اللجوء، ولا تحب الاعتماد. تحب أن تكون ملجأً، وملاذًا. كزاهدٍ في صومعة. تمامًا. ليس مديحا بالمناسبة. هذا تشبيه طارئ.
لماذا نُخلق فرادى إذا كان أحدنا سيحتاج إلى الآخر بعدئذٍ؟
تتمنى لو أنها خلقت لكي تُعطي أبدا. ولا تأخذ إطلاقًا. تتمنى كثيرًا.
يبدو أن حياتها ستكون مليئة بها وحدها. تتمنى ذلك، أو ربما تكذب.
.
" يبدو أن أخاك الصغير يأخذ ملامحك كثيرًا ".
تحمله إلى المرآة، وتقرب وجهيهما، ثم تُسرّه أنهما لا يتشابهان إطلاقًا، وأن الناس لا يرون جيدا. تؤمّله أنه سيبدو أجمل. تُدهش الطفل المرآة حين تكررهما مرتين. ويبدأ يطابق الصور. ثم يضحك. وحديثها هواء. لكنها تعتقد أن الطفل يختزن ما يسمع، ثم يصبح عليه أن يعيد شريط التسجيل ذات فراغ عندما يكبر.
.
كم مرّة نتهشّم أمام المرايا كي نعرفنا؟
تغرق في التفاصيل، تجرب ملامح مختلفة، تبتسم، تضحك، تبكي، تندهش، ترفع حاجبًا، وتنزل آخر، ترفع اثنين، تغضب، تفتح عينيها على اتساعهما. " تستهبل " تمسك قبضةَ ماء وتصفع وجهها به حَنَقًا. تتهشّم، تبتعد. هنا تكتمل الصورة تماما.
.
تضع السّماعة على أذنيها، إحدى الجهتين لا تعمل، يدخل الصوت من جهة ويخرج من أخرى. تماما مثل الوعي أو الدرس الداخل من أذن والخارج من أخرى. تهرب إلى مكتب أختها، تأخذ سماعة جديدة. ثم يحلو الضجيج. حين يضجّ الداخل، ننافسه بضجيج الخارج الذي نحدثه بأنفسنا، وما دامت لا تملك ضجيجا. تضع السماعة.. وتحاول الكتابة والغناء في الآن ذاته.
.
تثرثر كثيرًا هنا، بمقدار صمتها كلّ حين. يخيّل إليها أنها ستستطيع كسب فرصة للدخول في موسوعة غينيس في أطول فترة صمت. وأطول فترة تحديق دون معنى.
مرّ عليها زمن دون أن تثرثر. كانت " تحافظ على اسمها عزيزا " كما يقول الشاعر الناقد.
ماذا جَنينَا من وَرا الأسماءِ؟
وتهشِّم الأرواحَ قبضةُ ماءِ !
..
ثم لا قصائدَ لا عناوينَ لا رسائل لا مقاصدَ لا ألغاز.
.
تغمضُ عينيها. ربما ستنام بعد الثرثرة كي تصحو. ربما ستنام بعد الثرثرة كيـ لا.
.